فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإيضاح مسألة الحكم العقلي أنّه عند جمهور النظار ثلاثة أقسام.
الأول: الواجب عقلًا.
الثاني: المستحيل عقلًا.
الثالث: الجائز عقلًا، وبرهان حصر الحكم العقلي في الثلاثة المذكورة، أن الشيء من حيث هو شيء، لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات: إما أن يكون العقل يقبل وجوده، ولا يقبل عدمه بحال. وإما أن يكون يقبل عدمه ولا يقبل وجوده بحال. وإما أن يكون يقبل وجوده وعدمه معًا. فإن كان العقل يقبل وجوده، دون عدمه فهو الواجب عقلًا، وذلك كوجود الله تعالى متصفًا بصفات الكمال والجلال. فإن العقل السليم لو عرض عليه وجود خالق هذه المخلوقات لقبله ولو عرض عليه عدمه، وأنها خلقت بلا خالق، لم يقبله، فهو واجب عقلًا. وأما إن كان يقبل عدمه، دون وجوده، فهو مستحيل عقلًا، كشريك الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، فلو عرض على العقل السليم عدم شريك لله في ملكه، وعبادته لقبله، ولو عرض عليه وجوده لم يقبله بحال، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقال: {إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] فهو مستحيل عقلًا. وأما إن كان العقل يقبل وجوده وعدمه معًا، فهو الجائز العقلي، ويقال له الجائز الذاتي، وذلك كإيمان أبي لهب، فإنه لو عرض وجوده على العقل السليم لقبله، ولو عرض عليه عدمه بدل وجوده لقبله أيضًا، كما لا يخفى، فهو جائز عقلًا جوازًا ذاتيًا، ولا خلاف في التكليف بهذا النوع الذي هو الجائز العقلي الذاتي.
وقالت جماعات من أهل الأهواء: إن الحكم العقلي: قسمان فقط، وهما الواجب عقلًا، والمستحيل عقلًا، قالوا والجائز عقلًا لا وجود له أصلًا، وزعموا أن دليل الحصر في الواجب والمستحيل أن الأمر، إما أن يكون الله عالمًا في أزله، بأنه سيود فهو واجب الوجود لاستحالة عدم وجوده مع سبق العلم الأزلي بوجوده، فإيمان أبي بكر فهو واجب عندهم عقلًا لعلم الله بأنه سيقع، إذ لو لم يقع لكان علمه جهلًا سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وذلك محال. وإما أن يكون الله عالمًا في أزله، بأنه لا يوجد، كإيمان أبي لهب، فهو مستحيل عقلًا، إذ لو وجد لانقلب العلم جهلًا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وهذا القول لا يخفى بطلانه، ولا يخفى أن إيمان أبي لهب، وأبي بكر كلاهما يجيز العقل وجوده وعدمه، فكلاهما جائز إلاّ أن الله تعالى شاء وجود أحد هذين الجائزين، فأوجده وشاء عدم الآخر فلم يوجده.
والحاصل: أن المستحيل لغير علم الله السابق بعدم وجوده، لأنه مستحيل استحالة ذاتية كالجمع بين النقيضين لا يقع التكليف به إجماعًا، وكذلك المستحيل عادة كما لا يخفى.
أما الجائز الذاتي فالتكليف به جائز، وواقع إجماعًا كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلًا، وإن استحال من جهة علم الله بعدم وقوعه، وهم يسمون هذا الجائز الذاتي مستحيلًا عرضيًا ونحن ننزه صفة علم الله عن أن نقول إن الاستحالة بسببها عرضية.
فإذا علمت هذا فاعلم أنّ علماء الأصول وجميع أهل العلم، مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي، كإيمان ابي لهب، وأن كان وقوعه مستحيلًا لعلم الله بأنه لا يقع.
أما المستحيل عقلًا لذاته كالجمع بين النقيضين والمستحيل عادة كمشي المقعد، وطيران الإنسان بغير آلة، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».
وأما المستحيل العقلي: فقالت جماعة من أهل الأصول: يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلًا، وبالمستحيل عادة. وقال بعضهم: لا يجوز عقلًا مع إجماعهم على أنّه لا يصحّ وقوعه بالفعل. وحجّة من يمنعه عقلًا أنه عبث لا فائدة فيه، لأن المكلف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال، فتكليفه بما هو عاجز عنه عجزًا محققًا عبث لا فائدة فيه، قالوا فهو مستحيل، لأن الله حكيم خبير، وحجة من قال بجوازه أنّ فائدته امتحان المكلّف، هل يتأسف على عدم القدرة، ويظهر أنّه لو كان قادرًا لا مثل، والامتحان سبب من أسباب التكليف، كما كلف الله إبراهيم بذبح ولده، وهو عالم أنه لا يذبحهن وبيّن أن حكمه هذا التكليف هي ابتلاء إبراهيم، ت أي اختباره هل يمتثل فلما شرع في الامتثال فداه الله بذبح عظيم كما قال تعالى عنه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103- 107].
وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة التكليف بالمحال وأقوال الأصوليين فيها، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلًا، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله، بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية بقوله:
وجوز التكليف بالمحال ** في الكل من ثلاثة الأحوال

وقيل بالمنع لما قد امتنع ** لغير علم الله أن ليس يقع

وليس واقعًا إذا استحالا ** لغير علم ربنا تعالى

وقوله: وجوّز التكليف يعني الجواز العقلي.
وقوله: وقيل بالمنع، أي عقلًا ومراده بالثلاثة الأحوال: ما استحال عقلًا وعادة، كالجمع بين النقيضين وما استحال عادة، كمشي المقعد: وطيران الإنسان، وإبصار الأعمى، وما استحال لعلم الله بعدم وقوعه.
وإذا عرفت كلام أهل الأصول في هذه المسألة، فاعلم أن التوبة تجب كتابًا وسنة وإجماعًا من كل ذنب اقترفه الإنسان فورًا، وأن الندم ركن من أركانها، وركن الواجب واجب، والندم ليس بفعل، وليس ي استطاعة المكلف، لأنه انفعال لا فعل والانفعالات ليست بالاختيار، فما وجه التكليف بالندم، وهو غير فعل للمكلّف، ولا مقدور عليه.
والجواب عن هذا الإشكال: هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها، وهي في طوق المكلف، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعه صحيحه، ولم يحابها في معصية الله لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل، والشراب الذي في السم القاتل لايستلذه عاقل لما يتبع لذته من عظيم الضرر، وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشدّ من السمّ القاتل، وهو ما تسلتزمه معصية الله جل وعلا من سخطه على العاصي، وتعذيبه له أشد العذاب، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه، وينغص عليه لذة الحياة. ولا شك أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم، وأنه يتوصل إلى حصول الندم على المعصية، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها.
فالحاصل: أنه مكلف بالأسباب المستوجبة للندم، وأنه إن استعملها حصل له الندم، وبهذا الاعتبار كان مكلفًا بالندم، مع أنه انفعال لا فعل.
ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤدّية إلى الندم على المعصية، قول الشاعر وهو الحسين بن مطير:
فلا تقرب الأمر الحرام فإنه ** حلاوته تفنى ويبقى مريرها

ونقل عن سفيان الثوري رحمه الله أنه كان كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ** الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء في مغبَّتها ** لا خير في لذة من بعدها النار

وأما الإشكال الذي في الإقلاع عن الذنب، فحاصله: أن من تاب من الذنب الذي هو متلبس به، مع بقاء فساد ذلك الذنب، أي أثره السيئ، هل تكون توبته صحيحة، نظرًا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه.
وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقق للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت، أولًا تكون توبته صحيحة، لأنّ الإقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقق.
ومن أمثلة هذا من كان على بدعة من البدع السيئة المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب إذا بثّ بدعته، وانتشرت في أقطار الدنيا، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة، فندم على ذلك، ونوى ألا يعود إليه أبدًا، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه، لانتشارها في أقطار الدنيا، ولأن من سنّ سنّة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ففساد بدعته باق.
ومن أمثلته من غصب أرضًا، ثم سكن في وسطها، ثم تاب من ذلك الغضب نادمًا عليه، ناويًا ألا يعود إليه، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة، وسلك أقرب طريق للخروج منها، فهل تكون توبته صحيحة، في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها، لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه، أو لا تكون توبتة صحيحه، لأنّ إقلاعه عن الغصب، لم يتم ما دام موجودًا في الأرض المغصوبة، ولو كان يسير فيها، ليخرج منها.
ومن أمثلته من رمى مسلمًا بسهم، ثم تاب فندم على ذلك، ونوى ألا يعود قبل إصابة السهم للإنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقه إلى المرمى، هل تكون توبته صحيحه، لأنّه فعل ما يقدر عليه، أو لا تكون صحيحه، لأن إقلاعه عن الذنب، لم يتحقق وقت التوبة، لأن سهمه في طريقه إلى إصابة مسلم فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحه، لأن التوبة واجبة عليه، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه، وما لا قدرة له عليه معذور فيه لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 268] إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبًا.
وقال أبو هاشم، وهو من أكابر المعتزلة كابنه أبي علي الجبائي: إن التائب الخارج من الأرض المغصوبة آت بحرام، لأن ما أتى به من الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذن، كالمكث، والتوبة إنما تحقق عند انتهائه إذ لا إقلاع إلا حينئذ، والإقلاع ترك المنهي عنه، فالخروج عنده قبيح. لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهو مناف للإقلاع، فهو منهي عنه، مع أن الخروج المذكور مأمور به عنده أيضًا، لأنه انفصال عن المكث في الأرض المغصوبة، وهذا بناه على أصله الفاسد، وهو القبح العقلي، لكنه اخلّ بأصل له آخر، وهو منع التكليف بالمحال فإنه قال: إن خرج عصى، وإن مكث عصى، فقد حرم عليه الضدين كليهما. اهـ. قاله في نشر البنود.
وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود مقتصرًا على مذهب الجمهور بقوله:
من تاب بعد أن تعاطى السببا ** فقد أتى بما عليه وجبا

وإن بقي فساده كمن رجع ** عن بث بدعة عليها يتبع

أو تاب خارجًا مكان الغصب ** أو تاب بعد الرمي قبل الضرب

اه.

.قال الشعراوي:

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}.
تحدثت سورة النور من أولها عن مسألة الزنا والقذف والإحصان، وحذرتْ من اتباع خطوات الشيطان التي تؤدي إلى هذه الجريمة، وتحدثت عن التكافؤ في الزواج، وأن الزاني للزانية، والزانية للزاني، والخبيثون للخبيثات والطيبون للطيبات.
وهذا منهج متكامل يضمن سلامة المجتمع والخليفة لله في أرضه، فالله تعالى يريد مجتمعًا تضيء فيه القيم السامية، مجتمعًا يخلو من وسائل العكننة والمخالفة والشَّحْناء والبغضاء، فلو أننا طبَّقنا منهج الله الذي ارتضاه لنا لارتاح الجميع في ظله.
ومسألة غَضِّ البصر التي يأمرنا بها ربنا- عز وجل- في هذه الآية هي صمام الأمان الذي يحمينا من الانزلاق في هذه الجرائم البشعة، ويسد الطريق دونها؛ لذلك قال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30].
وقلنا: إن للإنسان وسائل إدراكات متعددة، وكل جهاز إدراك له مناط: فالأذن تسمع الصوت، والأنف يشم الرائحة، واللسان للكلام، ولذوْق المطعومات، والعين لرؤية المرئيات، لكن أفتن شيء يصيب الإنسان من ناحية الجنس هي حاسَّة البصر؛ لذلك وضع الشارع الحكيم المناعة اللازمة في طرفي الرؤية في العين الباصرة وفي الشيء المبصر، فأمر المؤمنين بغضِّ أبصارهم، وأمر المؤمنات بعدم إبداء الزينة، وهكذا جعل المناعة في كلا الطرفين.
وحين تتأمل مسألة غَضِّ البصر تجدها من حيث القسمة العقلية تدور حول أربع حالات: الأولى: أن يغضَّ هو بصره ولا تبدي هي زينتها، فخطّ الفتنة مقطوع من المرسل ومن المستقبل، الثانية: أن يغضَّ هو بصره وأن تبدي هي زينتها، الثالثة: أن ينظر هو ولا تبدي هي زينتها. وليس هناك خطر على المجتمع إو فتنة في هذه الحالات الثلاث فإذا توفر جانب انعدام الآخر. إنما الخطر في القسمة الرابعة: وهي أن ينظر هو ولا يغضّ بصره، وأنْ تتزين هي وتُبدي زينتها، ففي هذه الحالة فقط يكون الخطر.